محاولات تفكيك السنه للدكتور/ يونس صوالحى خاص بالدين الإسلامى على منهج أهل السنة والجماعة
صفحة 1 من اصل 1
محاولات تفكيك السنه للدكتور/ يونس صوالحى خاص بالدين الإسلامى على منهج أهل السنة والجماعة
في مفهوم الحداثة
مفهوم السُّـنَّة عند الحداثيين
أ. السُّـنَّة بين الوحي والتُّراث
ب. تاريخية النَّصّ النبوي وآلية تفكيكه
ج. احتمالية النَّصّ النبوي سنداً ومتناً
آثار عقلنة النَّصّ النبوي وتفكيكه
التصنيف البدعي للحديث النبوي
نظرة في آليات التفكيك النصي
الخاتمة
ما من شك في أنَّ محاولات النيل من السُّـنَّة والتشكيك في حجيتها أصبح ديدن أقطاب الصراع الفكري الذين يتحركون وراء الستار، ويتسترون بسلطة العلم والعقلانية والموضوعية. ومع بروز الفكر الحداثي في الغرب وانتقاله للشرق برزت مجموعة من المفكرين المسلمين رأوا في الحداثة الغربية سفينة النجاة التي تحمل معها بشائر الحضارة والتطور. وقد ألقي الفكر الحداثي بظلاله على المقومات الفكرية والحضارية للأمة العربية والإسلامية، حتى بدت ملامح تأثيره واضحة على المجتمع المسلم حيث أصبح المسلم فيها حائراً بين تراث يرجع في أسسه إلى سلطة الوحي، وبين حداثة تقدّس العقل وتشكك في النقل. وكانت السُّـنَّة النَّبويَّة من ضمن هذا النقل الذي طالته يد التشكيك، بدأه مستشرقون كأمثال جولد زيهر وتلقفه "مفكرون مسلمون تقدميون" من أمثال محمَّد أبي رية، وطه حسين، وعلي عبد الرازق.
ليس من هدف هذا البحث إعادة اجترار الردود التي صدرت ممن دافعوا عن السُّـنَّة ونافحوا عنها كأمثال الشيخ مصطفى السباعي والشيخ عبد الغني عبد الخالق وغيرهما من السيل الجرار الغيورين على السُّـنَّة النَّبويَّة، إنما الهدف هو تقويم المحاولة التي وصفت بالعلمية التي قام بها الحداثيُّون الذين ما زالوا أحياء ويتربعون على عرش الحداثة المبشرة بالحضارة والتقدم. وقد اخترت منهم مجموعة بوصفها ذات موقع استراتيجي في مشروع نقد النَّصّ والعقل الإسلامي، وأيضاً لما تحتله من مكانة في صناعة "البديل"، وتحريك آليات الحداثة التي ظلت تنقص المجتمع الإسلامي منذ عصر النهضة الأوروبية، على حد زعمهم. وسندخل مع هؤلاء المفكرين في حوار هادئ لنرى مدى علمية وعقلانية الطروحات التي يحتفي بها "رواد الحضارة"، أو "رواد الحداثة".
في مفهوم الحداثة
عادة ما يطلق مصطلح الحداثة في إطار تقابلي يجعل من التقدم والحضارة معاني مترادفة، كما أنه يجعل مقابل الحداثة معاني مثل الرجعية والتخلف والتقليد والأصولية. وقد تأصلت هذه المعاني في عصر النهضة لما احتفل الغرب بانتصار العقل على اللاهوت، أو "الدوغمائية" على حد تعبير محمَّد أركون. وأصبحت الحداثة تعرّف بمعاييرها التي صاغها أقطاب العقل الفلسفي أمثال ديكارت ومنهجه التشكيكي، وهيوم وبيكون ومل، ومنهجهم الاستقرائي الإمبريقي، ونيتشه وفوكو والنسبية التَّاريخيَّة الأخلاقية. وأصبحت الحداثة تعني التصنيع والتحديث والتطور السياسي والتقدم والتنمية والعقلانية. [1]
وفي خضم تفاعل آليات هذا المشروع الحضاري الضخم نشأت آليات التعامل مع التُّراث بوصفه الفكر "القديم". وهنا لا بُدَّ أن أسجل أنَّ أوروبا لم تكن بصدد إحداث قطيعة مع تراثها بقدر ما كانت تسعى جاهدة إلى استحداث آليات تمكنها من قراءة التُّراث قراءة إيجابية. لم تكن أوروبا قادرة على التخلص من "الدوغمائي" لأنه كان وما يزال يشكل العقل الروحي الذي بعث أوربا إلى الوجود الحضاري مع تحول الخلق البروتستانتي إلى المشروع الرأسمالي والذي مكّن أوروبا من إتقان فن التعامل مع المادة. وكانت الدِّراسات المهتمة بالتعامل مع النَّصّ في طور إنشاء علم الألسنيات وطرق تأويل الخطاب ومناهج النقد التاريخي التي وظفت كلها للتعامل مع النَّصّ المُقدَّس والبشري. وانتهى المطاف بهذه الدِّراسات إلى إلغاء المُقدَّس وتمجيد العقل والواقع وجعلهما حاكمين لا محكومَين ذواتا سلطة ترجَّح على سلطة النَّصّ.
لم يكن العالم الإسلامي بعيداً عن التطور الحضاري الهائل الذي حدث في الغرب، وكان من شبه الطبيعي أن يتوق أصحاب القرار إلى اللحاق بركب الغرب ومواكبة منجزاته، إلاَّ أنه الذي لم يكن طبيعياً أن يحصل هذا التحديث على حساب المقومات الأساسية والعقائدية للأمة الإسلامية، فبدأت مشاريع التحديث على مستوى جميع الصُّعُد، وبات راسخاً في أذهن بعض المفكرين والقانونيين أنَّ نقطة البداية في مشروع الحداثة المنشود هو النظر من جديد في النُّصّوص المُقدَّسة التي تمارس سلطتها منذ العصر النبوي إلى الآن.
فقد وُضع النَّصّ القرآني والنَّصّ النبوي في محك النظر والنقد والتفكيك (دون التركيب) ليؤول هذا النَّصّ في النهاية إلى مجرد خطاب يمكن نقده ونقضه، "ففي نقد النَّصّ تستوي النُّصّوص على اختلافها ...(و) هنا يمكن الجمع بين النَصّ الفلسفي والنَّصّ النبوي" [2]. ولقد استهدفت السُّـنَّة النَّبويَّة المطهرة من قبل الحداثيين المسلمين فأخضعوها لمناهج تأويل النَّصّ الإنجيلي، وحكّموا فيها العقل ووضعوها موضع النقد، وجرّحوا في رواد علم الحديث ونسفوا أعمالهم واتهموهم باتهامات سنوضحها في موضعها.
وقد خاض هؤلاء في طبيعة النَّصّ النبوي بوصفه نصاً يفهمه عامَّة المسلمين لأنه يستلهم الوحي ويستمد منه حجيته وصيرورته. فراح هؤلاء يضربون في هذه المسلَّمة العقدية والتشريعية بوصف السُّـنَّة مرة بالتُّراث [3]، وأنها لا تجانب الحقيقة [4]، وأنها ليست وحياً [5]، وبالتالي فهي تاريخية غير أبدية [6]، وغيرها من الأطروحات التي سنناقشهم فيها بطريقة هادئة غير عنيفة ولا عاطفية.
وحري بالقول، إن العلماء أسسوا علم مختلف الحديث وعلم ميزان الرجال والجرح والتعديل وتاريخ الرواة وعلم تأويل مشكل الحديث، والناسخ والمنسوخ ومعرفة غريب الحديث وعلله ومعرفة الموضوعات وكشف حال الوضاعين وعلم أصول الرواية، وغيرها من الفنون التي إن دلت على شيء فإنما تدل على أنه لم يلق خطاب أو نص من الرعاية والتثبت مثل ما لقي نصَّا القرآن والسنة. ويدل هذا أيضاً على أنَّ الإشكالات التي يثيرها الحداثيُّون جاءت متأخرة جداًَ لوجود نظيراتها في التَّاريخ الإسلامي والتي استدعت تأسيس هذه الفنون دفاعاً عن حياض السُّـنَّة من انتحال المبطلين وخبث المغرضين.
ولا بد من التنبيه إلى أن التيار الحداثي الذي سنحاوره هو ذلك التيار الذي ينطلق من منطلقات قومية واستغرابية في نقده للتراث الإسلامي والتعامل مع نصوصه المقدسة، ولا نقصد التيار التجديدي الإصلاحي الذي ينظر في التراث الإسلامي من منطلقات إسلامية وبدوافع تجديدية تهدف إلى تصفية التراث الإسلامي مما علق به من أفكار دخيلة وتأويلات فاسدة لنصوصه الشرعية، ومحاولة قراءة النصوص الشرعية وفق قاعدة الثابت والمتغير الشرعية من أجل صياغة المشاريع الإصلاحية وتحقيق الشهود الحضاري المنشود.
مفهوم السُّـنَّة عند الحداثيين
يتعلق مفهوم السُّـنَّة عند الحداثيين بالأسس الفكرية والخلفيات الوضعية التي ينطلقون منها، فتغلغل المنطق الوضعي في الفكر الحداثي وممارسته لسلطته المطلقة على الساحة الفكرية جعل الحديث عن المسلّمات رهن الجدال، وحوّل المُقدَّس إلى بضاعة مزجاة يتاجر فيها كُلّ من رفض سلطة المُقدَّس. وسوف نعرض لأهم طروحات الحداثيين حول السُّـنَّة والرد عليها في النقاط الآتية:
أ. السُّـنَّة بين الوحي والتُّراث
يرى الحداثيُّون بدرجات مختلفة أنَّ السُّـنَّة تراث أكثر من أن تكون وحياً. وقد ذكر الفيلسوف الجزائري الأصل محمد أركون المتربع على كرسي الدِّراسات الإسلامية في جامعة السوربون بفرنسا في معرض ردّه على من يصفهم بالمتشددين أنهم "يعتقدون أنَّ التُّراث (السُّـنَّة) [7]ينبغي أن تتغلب على كُلّ بدعة" [8]. واعتبار السُّـنَّة تراثاً يتطلب تجريدها من سماتها الخاصة التي جعلت منها مصدراً ثانياً للشريعة الإسلامية. ويستلزم من ذلك اعتبار السُّـنَّة مجرد خطاب أو نص ظهر في التَّاريخ لمهمة خاصة ليس لها طابع الديمومة.
ويضعنا مصطلح "التُّراث" في مغالطة وجودية وفكرية حينما يفترض أنَّ السُّـنَّة مجرد نص يمكن إخضاعه للنقد وبالتالي يمكن قبوله أورفضه، وهذا ما جعل محمَّد شحرور يؤكد بكل جرأة أنَّ "السُّـنَّة النَّبويَّة، أي ما فعله وقاله وأقره النَّبيّ الكريم (ص) ليست وحيا"ً [9]، وراح يستدل على ذلك بقضايا لغوية وعقلية أبعدته عن جادة الصواب. وإنَّ أخطر ما توصلت إليه دراسة شحرور حول السُّـنَّة هي وصفها بالتاريخية، وأنها كلها اجتهاد من طرف النَّبيّ-صلى الله عايه وسلم . وأنَّ عدالة الصحابة وإجماعهم أمر يخص الصحابة وحدهم[10]، وأنَّ ما قيدته السُّـنَّة يمكن إطلاقه مرة أخرى مع تغير الظروف الموضوعية، وأنها ـ أي السُّـنَّة ـ اجتهاد في حقل الحلال يخضع للخطأ والصواب، وبالتالي فإنَّ ما تأتي به السُّـنَّة ليس شرعاً وإنما هي قانون مدني يخضع للظروف الاجتماعية.[11]
يستغل شحرور المواضيع المثارة في الدِّراسات الإسلامية حول السُّـنَّة والمتعلقة بقضايا شبيهة بما ذكره ولكنها ليست ضمن الإطار الذي يريد هذا الكاتب وضع السُّـنَّة فيه. فقد فرقت الدِّراسات الإسلامية العلمية حول السُّـنَّة بين السُّـنَّة التشريعية وغير التشريعية، وبين تصرف النَّبيّ -صلى الله عايه وسلم- كرسول وقاضٍ وإمام، ونبهت إلى بشريته -صلى الله عايه وسلم- التي لا يوافقها الوحي أحياناً حينما تجتهد تحت شعار "أنتم أعلم بأمور دنياكم"، وأكدت أنَّ النسخ في السُّـنَّة حاصل للتدرج في التشريع والتيسير على المكلفين.
إن خطأ شحرور يكمن في منهجه التعميمي الذي جعل من القضايا السالفة الذكر السمة الغالبة للسُّـنَّة النَّبويَّة، وهو بالتالي يستدل بالجزء على الكل، ويستنبط دون وجود أدلة كافية تشكل قاعدة للاستنباط. ومصيبة شحرور أنه يفرق بين محمَّد -صلى الله عايه وسلم- كنبي ومحمَّد كرسول، إذ نقرأ هذا في نص جريء: "ومن هنا فنحن لا نجد في التنزيل الحكيم أمراً بطاعة محمَّد البشر الإنسان، ولا أمراً بطاعة محمَّد النَّبيّ، بل نجد أكثر من أمر بطاعة محمَّد الرَّسُول، لماذا؟ لأن الطاعة لا تجب إلاَّ لمعصوم، ومحمَّد الإنسان ليس معصوماً، ومحمَّد النَّبيّ ليس معصوماً، ومحمَّد الرَّسُول هو المعصوم في حدود رسالته حصراً الموجودة في التنزيل"[12]. ويخلص إلى أنَّ "النبوة تحتمل التَّصديق والتكذيب"[13]، ويحصر شحرور عصمة الرَّسُول في تبليغ الذكر الحكيم، وعدم الوقوع في الحرام وتجاوز حدود الله[14].
يقتضي طرح شحرور هذا أمرين أساسيين: أولاً: قصر السُّـنَّة على مجرد نقل الوحي إلى البشر دون تمتعها بصلاحية تبيينه وتفسيره. وثانياً: مساواة النبي محمَّد -صلى الله عليه وسلم- في اجتهاده بباقي البشر. أمَّا الأمر الأوَّل فهو انتقاص لدور الرَّسُول الذي يرى شحرور أنه يتمتع بالعصمة بوصفه رسولاً لا نبياً، فما قيمة رسول معصوم إذا كان يلعب دور آلة اتصالية مبرمجة سلفاً لنقل خطاب من المخاطِب إلى المخاطَب دون أن تُعطى لها صلاحية البيان.
إنَّ نظرية الاتصال المعاصرة تؤكد أنه إذا كانت وسيلة الاتصال شخصاً فلا بُدَّ أنَّ يتمتع هذا الشخص بقدر من الحرية الفكرية والاستقلالية الذاتية والمرونة الخطابية التي تقتضيها طبيعة صاحب الخطاب الأصلي والمخاطَب. ذلك لأنَّ الخطاب لفظ ومعنى، وتبليغه يقتضي أساليبه من تصريح وكناية وحقيقة ومجاز وإشارة وإيماء وغيرها من الأساليب التي لم يلزم الوحي محمَّداً e بأي واحدة منها لتبليغ الرسالة، بل أباح له استخدام جميعها . أمَّا الأمر الثَّاني، فإنَّ طرح شحرور يتجاهل جواز وقوع خطأ في اجتهاد النَّبيّ مع عدم إقرار الوحي له، فلقد ذكر الآمدي أنَّ القائلين بجواز الخطأ من الرَّسُول متفقون على أنه لا يقر علي خطأ، بل لا بُدَّ من تنبيهه. وذكر ابن الحاجب أنَّ المختار أنه e لا يقرُّ على خطأ في اجتهاده، وهو ما أكده أحد عمالقة المنافحين عن السُّـنَّة النَّبويَّة، العلامة الدكتور عبد الغني عبد الخالق بقوله: "إنه لا يُعقل أن يذهب ذاهب إلى جواز الخطأ مع التقرير عليه".[15]
وتتأكد مزاعم تراثية النَّصّ النبوي على لسان نصر حامد أبو زيد، الذي ربط بين دراسة النَّصّ القرآني وبين النَّصّ النبوي في بيان منزلة السُّـنَّة، حيث ذكر أنَّ "النَّصّ منذ لحظة نزوله الأولى مع قراءة النَّبيّ له لحظة الوحي تحول من كونه نصاً إلهياً وصار فهماً إنسانياً، لأنه تحول من التنزيل إلى التأويل ... ولا التفات لمزاعم الخطاب الديني بمطابقة فهم الرَّسُول للدلالة الذاتية للنص" [16]. ولا يكترث نصر بالقول عندما يؤكد أنَّ مصطلح التأويل "بدأ يتراجع بالتدريج، ويفقد دلالته المحايدة، ويكتسب دلالة سلبية، وذلك في سياق عملية التطور والنمو الاجتماعيين ..." [17] .
يحتوي هذا النَّصّ على أغلوطة فاضحة لم يكلف نصر نفسه عناء البرهنة عليها وهي أنَّ السُّـنَّة تأويل للقرآن الكريم. ولا يخفى ما يحمله مصطلح التأويل من تحريف في بيان العلاقة بين القرآن والسُّـنَّة. إذ إنَّ بيان الرَّسُول -صلى الله عايه وسلم- للقرآن الكريم من خلال تخصيص عامّه، وتقييد مطلقه، وتفصيل مجمله أصبح كله تأويلاً ـ في نظر نصر ـ لا يهم ما إذا طابق أو خالف الدلالة الذاتية للنص القرآني. إنّ تحوّل البيان إلى تأويل يفترض استقلالية المؤوِّل للمؤوَّل، أي تمتع المؤوِّل بسلطة يمارسها على النَّصّ بدل أن تكون للنص سلطة مطلقة تمنح للمؤوِّل مجال البيان فقط. إنَّ الرَّسُول e كما شهدت الآيات بذلك كان مبيِّناً للقرآن في حدود العموم والإجمال الذي اتسمت به بعض الآيات. وما أضافته السُّـنَّة من أحكام شرعية يعد من البيان على حد تعبير الإمام الشافعي[18]، وإقرار علماء الأمة بذلك.
وقد يكون التأويل مدخلاً إلى النقد على حد ما مورس في تأويل الكتب الدِّينيَّة في اليهوديَّة والمسيحيَّة تحت اسم الهرمنيوطيقا ـ Hermeneutics والذي انتهى المآل بالمؤولين إلى تأكيد تاريخية النَّصّ المُقدَّس، وهو ما سنبحثه في النقطة التالية.
ب. تاريخية النَّصّ النبوي وآلية تفكيكه عند الحداثيين
اقتضى المنهج الحداثي إخضاع النَّصّ المُقدَّس لآليات التفكيك والنظريات الألسنية الحديثة. ولقد رأى بعض الحداثيين ضرورة ذلك، فكما أكد محمَّد أركون "من الملحّ والعاجل ـ من وجهة نظر التَّاريخ العام للفكر - أن نطبق على دراسة الإسلام المنهجيات والإشكاليات الجديدة، نقصد بذلك تطبيق المنهجيات والآفاق الواسعة للبحث من تاريخية وألسنية وسيميائية دلالية وأنثربولوجية وفلسفية" [19]. وقد دشن أركون مشروعه التفكيكي بوضع النَّصّ القرآني موضع التساؤل والنقد، وبهذا العمل ـ على حد تعبيره ـ: "فإننا نخضع القرآن لمحك النقد التاريخي المقارن أو للتحليل الألسني التفكيكي" [20]، ومن مقتضيات التفكيك اعتبار الأمور الآتية:
1.انعدام الدليل النقلي الخالص:
لا يؤمن التيار الحداثي بوجود دليل نقلي خالص، وأنه ـ على حد تعبير حسن حنفي ـ: "لا يعتمد على صدق الخبر سنداً أو متناً وكلاهما لايثبتان إلاَّ بالحس والعقل طبقاً لشروط التواتر، فالخبر وحده ليس حجةً ولا يثبت شيئاً على عكس ما هو سائد في الحركة السلفية المعاصرة على اعتمادها المطلق على: "قال الله"، و"قال الرَّسُول" واستشهادها بالحجج النقلية وحدها دون إعمال الحس والعقل، وكأن الخبر حجة، وكأن النقل برهان، وأسقطت العقل والواقع من الحساب في حين أنَّ العقل أساس النقل" [21]. وفي معرض حديثه عن التواتر ذكر أنَّ "السُّـنَّة دليل بشرط تواترها كما هو معروف في شرط التواتر في نقل الرسالة" [22]. وهو تناقض صارخ في اعتبار السُّـنَّة المتواترة دليلاً في هذا النَّصّ، وإنكاره لذلك في النَّصّ الذي قبله، هذا بالرغم من موافقة الحس والعقل للحديث المتواتر بناءً على مبدأ استحالة التواطؤ على الكذب، وأن يكون مستند خبر الرواة الحس كما أكد على ذلك علماء السُّـنَّة والأصول.
2. اعتبار النَّصّ النبوي خطاباً لغوياً قابلاً للنقد:
بناءً على ما تم تأكيده من طرف التيار الحداثي من تراثية السُّـنَّة النَّبويَّة، وبناء على فرض التساوي بين أنواع الخطاب، فإنَّ النَّصّ النبوي يصبح عرضة لمناهج الألسنيات الحديثة وتحليل الخطاب التاريخي ونقده، ففي منطق النقد "يستقل النَّصّ عن المؤلف" [23]، كما أكد علي حرب في كتابه "نقد النَّصّ". وما دام أنه أكد قبل هذا على تساوي النَّصّوص، فلا فرق عنده إذاً بين النَّصّ النبوي والنَّصّ البشري.
وبالتالي تم تفكيك أهم علاقة تربط النَّصّ النبوي بالوحي لتُجرَّد السُّـنَّة بعد ذلك من شرعيتها التي منحها إياها الوحي. ثُمَّ ينتقل هذا المنهج إلى تفكيك النَّصّ النبوي عن الحقيقة. فقد أصبحت هذه الأخيرة هي الأخرى محل نقد لارتباطها بالنَّصّ النبوي. يقول علي حرب: "فالنَّصّ النبوي، مثلاً، لا تكمن أهميته في كونه يروي الحقيقة أو يتطابق معها، بل تكمن بالدرجة الأولى في حقيقته هو...". [24]وهكذا يصبح النَّصّ النبوي نفسه موضع المساءلة ما إذا كان حجة أم لا، فضلاً عن تضمنه رسالةً للبشرية، أو كونه هدى وبشرى للعالمين.
إنَّ هذا المنهج يضحي بالقيم الحضارية والإنسانية التي تضمنتها رسالة خاتم النَّبيّين، ويجعل العقل النسبي حاكماً على العقل المطلق الذي باركه الوحي وخوّله مهمة هداية البشرية. وعليه ما فتئ المدافعون عن السُّـنَّة النَّبويَّة كالسباعي وعبد الخالق التأكيد على أنَّ التشكيك في السُّـنَّة هو تشكيك في القرآن نفسه. ونضيف أنَّ التشكيك في القرآن هو تشكيك في حقيقة الوجود الإنساني، أو هي دعوة إلى العبثية بقوانين الفكر وتكريس للعقلنة المتشرذمة التي لا يضبطها ضابط ولا تنأى بنفسها عن الأصولية التي طالما اتهم بها الحداثيُّون جمهور المسلمين الذين ينشدون: "قال الله، وقال الرَّسُول"، وفق حدود فهم هذين المصدرين التشريعيين المهمين.
3. الخطاب النبوي حجاب:
بما أنَّ النَّصّ النبوي "لا يقول الحقيقة بل يخلق حقيقته" في نظر الحداثيين، فإنه ينظر إليه من طرف هؤلاء على أنه حجاب، يحجب الحقائق المطلقة التي يجب أن يفكر فيها، وعليه فـ "استراتيجية النَّصّ تقوم على جملة من الألاعيب والإجراءات يمارس الخطاب من خلالها آلياته في الحجب والتبديل والنسخ. والنَّصّوص سواء في ذلك" [25]، وعليه يقتضي المنهج التفكيكي أن يقوم "التعامل مع النَّصّ على كشف المحجوب" [26]. أي مساءلة حقيقة النَّصّ ومصدره حتى لا يحجب ما يجب أن يكون محل مساءلة ونقد، وهذا اتهام بأن الخطاب النبوي خطاب "ديماغوجي" أو "دوغمائي" يسعى لحجب الحقائق وصرف الناس عن قضايا تتعلق بحجية السُّـنَّة.
وحتى لا نقع في التعميم، ليس كُلّ الحداثيين ينظرون إلى السُّـنَّة بهذا المنظار، فإنَّ منهم من بلغ به الشطط إلى تسوية السُّـنَّة بأي خطاب بشري كعلي حرب، وأركون، وحنفي، وشحرور، و منهم من خفف الوطأة كالجابري الذي كان حذراً من الشطط الذي وقع فيه الآخرون، وإن كان هو نفسه لم يسلم من بعض الشطط عندما حاول التأصيل لمشروع التوفيق بين التُّراث والحداثة. ففي معرض حديثه عن الحديث الصحيح ذكر أنَّ "كتب الحديث الصحيحة، كصحيحي البخاري ومسلم إنما هي صحيحة بالنسبة للشروط التي وضعها أصحابها لقبول الحديث، الحديث الصحيح ليس صحيحاً في نفسه بالضرورة... وإنما هو صحيح بمعنى أنه يستوفي الشروط التي اشترطها جامع الحديث كالبخاري ومسلم" [27].
إنَّ في تلقي الأمة الإسلامية قديماً وحديثاً للصحيحين بالقبول ما يغني عن بيان قيمة هذين الكتابين باعتبارهما أصح كتابين تضمنا سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولقد اعتبر محمَّد شحرور هذه المقولة بأنها من أكبر المغالطات، حيث جاء في أصوله الجديدة: "يقولون صحيح مسلم وصحيح البخاري، ويقولون إنهما أصح الكتب بعد كتاب الله، ونقول نحن: هذه إحدى أكبر المغالطات التي ما زالت المؤسسات الدِّينيَّة تُكره الناس على التسليم بها تحت طائلة التكفير والنفي"[28].
ولا يعني هذا أبداً أننا نغمض عينينا على ما لا يزال البحث فيه قائماً في الدِّراسات الحديثية من الاستدراك على البخاري ومسلم وتصحيح ما اعتبره البخاري نفسه غير صحيح وفق شروط الحديث الصحيح المعروفة، إلاَّ أنها تبقى استدراكات وليست محاولة للتشكيك في منهج البخاري في التثبت في نقل الحديث سنداً أو متناً، أومحاولة لاعتبار تدوين السُّـنَّة إرهاصاً من إرهاصات تشكل "أرثوذكسية" على حد تعبير أركون، يقول هذا الأخير: "ثُمَّ راحت الأرثوذكسيات الكبرى تتشكل تاريخياً عن طريق تأليف كتب الحديث أو الصحاح، أقصد الأرثوذكسية السنية والأرثوذكسية الشيعية والأرثوذكسية الخارجية" [29].
وإقحام مصطلح "الأرثوذكسية" على السُّـنَّة المطهرة، إقحام يمجّه البحث العلمي وكُلّ من تذوق سموّ السُّـنَّة النَّبويَّة عن أن تكون خطاباً لاهوتياً يسعى إلى حجب الحقائق عن طريق آليات الحجب، خصوصاً إذا كانت السُّـنَّة النَّبويَّة تسعى إلى تبليغ أسس العقيدة الصافية. ولذلك لم تسلم السُّـنَّة المطهرة حيال حملها المعاني العقيدية للبشرية، لم تسلم من وصفها ضمناً بأنها: "خطاب أحادي قائم على الحصر والاستبعاد والإدانة والإقصاء..." [30]. ولذلك لم يتوان أركون من اعتبارها إحدى شطحات الشافعي الذي حسب زعم أركون - هو الذي أضاف السُّـنَّة إلى القرآن بوصفها، أي السُّـنَّة، مصدراً ثانياً من مصادر التشريع الإسلامي [31]. واعتبر الرسالة متأثرة بعقلٍ (أي بعقل الشافعي) "ينمو ويترعرع داخل إطار مجموعة نصية Corpus، ناجزة ومغلقة على ذاتها، نقصد بذلك القرآن والحديث".[32]
ج. احتمالية النَّصّ النبوي سنداً ومتناً
ممَّا يتفق عليه الحداثيُّون والمحدِّثون أنَّ السُّـنَّة المنقولة إلينا ليست كلها صحيحة، وهو ما استدعى تأسيس جملة من العلوم تنظر في الحديث سنداً ومتناً. إلاَّ أنَّ الحداثيين ذهبوا إلى أبعد من ذلك وهو ـ كما رأينا سابقاً ـ وضع "سؤال السُّـنَّة" في محك النقد من حيث نفي حجيتها بوصفها تأويلاً للقرآن وخطاباً لغوياً كسائر الخطابات البشرية، وفي هذا السياق يتم تجريد النَّصّ النبوي أو بالأحرى الدليل النبوي من أهم خاصية يتمتع بها، وهي كونه يدور بين القطعية والظنية من حيث الثبوت والدلالة.
سوف نتجاوز أولئك الحداثيين الذين هداهم منهج النقد التاريخي ونقد النَّصّ الديني إلى التشكيك في حجية السُّـنَّة، ونبقى مع أولئك الذين ترددوا بين الإنكار والإقرار.
من حيث السند، لا تعتبر السُّـنَّة دليلاً إلاَّ إذا كانت متواترة بشرط موافقة الحس على ذلك كما رأينا مع حسن حنفي وذلك في قوله: "والحقيقة أنَّ الدليل النقلي الخالص لا يمكن تصوره لأنه لا يعتمد إلاَّ على صدق الخبر سنداً أو متناً، وكلاهما لا يثبتان إلاَّ بالحس والعقل طبقاً لشروط التواتر" [33]. وخطأ حنفي أنه جعل النقل تابعاً للعقل ونصب العقل حاكماً على النقل، بل إنه وقع في الدور عندما زاد: "وبالتالي فإنَّ الحجج النقلية كلها ظنية حتى لو تضافرت واجمعت على شيء أنه حق لم يثبت أنه كذلك إلاَّ بالعقل"[34]، إذ إنه في هذه الفقرة يحدد المنهج الذي تثبت به حجية الدليل النقلي ألا وهو التواتر المبني على الاستقراء التام المفيد للقطع حسب ما اتفقت عليه كلمة المناطقة والفلاسفة قديماً وحديثاً، وبالتالي يصبح التضافر أو الاستقراء هو الدليل العقلي في حد ذاته فلا يحتاج إلى العقل مرة ثانية لإثبات معقوليته وإلاَّ لزم الدور.
ثُمَّ لم يبين لنا طريقة حكم العقل على الحجة النقلية التي تضافرت مفرداتها لتشهد على حجيتها، فهل هذا العقل الحاكم، عقل جمعي أم فردي؟ فإن كان جمعياً فهو تحصيل حاصل واستدلال مستلزم للدور، وإن كان فردياً فهو من باب حكم الجزئي على الكلي الغير مستغرق في كليه. وتأبى أسس المنطق الاستقرائي أن تقبل هذه النتيجة[35]، وبالتالي يتهاوى استدلال حسن حنفي من أساسه. وراح يبشر ويحتفي بسلطة العقل على النقل دونما تأصيل عقلاني لمبرررات هذه السُّلطة، وعليه فقد افترض سلفاً أنَّ قوة العقل تفوق قوة النَّصّ لأن النَّصّ في رأيه "لا يثبت شيئاً بل هو في حاجة إلى إثبات، في حين لا يقف شيء غامض أمام العقل، فالعقل قادر على إثبات كُلّ شيء أمامه أو نفيه"[36]. وبفضل هذا الاجتهاد الحنفي " أصبح النَّصّ مجرد صورة عامَّة تحتاج إلى مضمون يملؤها"[37].
وتكمن خطورة هذا التحليل في ثلاثة قضايا: الأولى: النَّصّ النبوي ظني كله سنداً ومتناً. الثانية: العقل أساس فهم النَّصّ النبوي. الثالثة: جعل الواقع أساس الجميع. وتخالف هذه القضايا الثَّلاثة ما اتفق عليه جمهور المسلمين قديماً وحديثاً، فقد اتفقوا على وجود القطعي في السُّـنَّة النَّبويَّة كالنُّصّوص التي تبيّن أعداد الركعات في الصلوات، وعدد الصلوات، ومقادير الزكاة وغيرها، واتفقوا على جعل النقل أساس العقل إلاَّ بعض الفِرق المندرسة كالمعتزلة القائلة بالحسن والقبح العقليين. واتفقوا على أنَّ الواقع معتبر في الشَّريعة بشرط موافقته للنقل، إلاَّ في مواطن تقتضي المصلحة الاجتهاد في النُّصّوص القطعية من باب الاستحسان وتحقيق مناط الحكم، ويبقى ذلك كله دائراً في حالة الاستثناء لا الأصل.
ولم تحل هذه الأسس دون تفتق عقل المسلم الذي راح يبدع في تحقيق معاني الاستخلاف باستخدام آليتي الوحي والعقل في توازن ولّدت تلك الحضارة التي تنطق بسموّ النقل على العقل وتناغمها الفريد، هذا التناغم لا يمكن أن يراه حسن حنفي وهو يؤكد من فراغ أنَّ "أولوية النَّصّ على الواقع تعطي الأولوية للنص على التجديد، وللماضي على الحاضر، وللتاريخ على العصر. يرجع التَّاريخ إلى الوراء لأنه ما زال يعتمد على سلطة الوحي، وأمر الكلمة، وما زال يتطلب الطاعة المطلقة لمجرد الأمر"[38].
وهذه الشطحة تجعل حسن حنفي يستحق بجدارة لقب مجدد الفكر الاعتزالي خصوصاً وهو ينهج منهجهم في ترتيب مصادر الشَّريعة، حيث بيّن أنَّ "ترتيب الأدلة الأربعة: القياس، ثُمَّ الإجماع، ثُمَّ السُّـنَّة، ثُمَّ الكتاب، فعلى الإنسان أن يجتهد رأيه فإن لم يجد ففي إجماع الأمة، حاضراً أو ماضياً، فإنْ لم يجد فعليه بالسُّـنَّة ثُمَّ الكتاب"[39]. وفي رأيه "فالأدلة الأربعة كلها ترتكز على الدليل الرابع، دليل العقل، وبالتالي كانت الأولوية للدليل العقلي على دليل النقل"[40]. ولاحظ حنفي أنَّ "الترتيب التقليدي للأدلة ابتداء بالقرآن فالحديث فالإجماع فالقياس يجعل الهرم قائماً على قمته، والمخروط مرتكزاً على رأسه".[41]
ما فتئ علماء الأمة قديماً وحديثاً يحذرون من خطورة تقديم العقل على النقل لما يترتب على ذلك من هدم الشرائع والمساس بمقدسات الدِّين وهدم أدلته القطعية والظنية بل، كما سنرى، هدم أركان الإسلام برمتها. وما نقل من أن بعض الحنفية والإمام مالك يقدمون العقل على النقل، وأن الطوفي يقدم المصلحة على النص، كل ذلك حرف عن مظانه وسياقه التشريعي الصحيح، وأنه بعد التحقيق الأصولي نجد أن كل هؤلاء يستخدمون العقل في حدود ما يخدم النقل على حد تعبير الإمام الشاطبي رحمه الله.
آثار عقلنة النَّصّ النبوي وتفكيكه
يمكن القول إنَّ المشروع الحداثي في تفكيك النَّصّوص النقلية بما فيها السُّـنَّة قد باءت بالفشل، وهي لا تكتسي أهمية إلاَّ في رؤوس أصحاب هذا المشروع، لذلك فالآثار التي سنتحدث عنها تعني الحداثيين الذين تأثروا بالاستشراق وتولدت لديهم مفاهيم خاصة عن التُّراث بقيت تقلقهم هم ومن نهج نهجهم ممن أعوزه التكوين الشرعي الدقيق.
1. عدم القدرة على التركيب بعد التفكيك:
لقد أوغل بعض الحداثيين في عملية التفكيك إلى درجة العجز عن التركيب، فتفكيكية أركون لم تحقق حلمه في "تجديد الفكر العربي والإسلامي" كما زعم، بل أضحت طروحاته عرضةً للنقد والتفكيك من طرف أقرانه، ولعل أهمها نقد الحاج حمد ـ رحمه الله ـ صاحب العالمية الثانية، وإن كان هو أيضاً رحمه الله ألَّب على نفسه الاتجاه المحافظ لإيغاله أيضاً في دراسة وحدة القرآن المعرفية باستخدام علم الألسنيات المعاصرة.
2. الحكم على السُّـنَّة بأنها تاريخية وبأنها تجربة فردية:
قد يعجب المرء عندما يصور أركون "مجتمع الرسالة" والأهمية التي يكتسيها في إعلان ميلاد حضارة ضخمة بأنها مجرد "تجربة فردية"، إذ ذكر أنَّ "العصر الافتتاحي"-على حد تعبيره- يمثل لحظة ممتازة ومناسبة من أجل دراسة تأثير تجربة فردية (تجربة محمَّد)[42]على قاعدتها اللغوية وإنتاج تاريخ واقعي محسوس..."[43]. وهي دعوة لشخصنة الرسالة، ولذلك يلتقي أركون مع المستشرقين في اعتبار الإسلام قصة شخص عظيم اسمه محمَّد.
3. تحميل الفقهاء والمحدثين والأصوليين مسؤولية اعتبار السُّـنَّة حجة:
يصب الحداثيُّون جام غضبهم ونقدهم على علماء الأمة الذين نذروا أنفسهم لخدمة هذا الدِّين والذبّ عن أصوله، فقد اتهموهم بأنهم يمثلون "الإسلام الكلاسيكي" وأنَّ "خطابهم دوغمائي لاهوتي" وأنَّ ثقافتهم مسطحة وفكرهم عليل، وأنهم يمثلون مشكلة وعقبة في طريق الحداثة المنشودة، وعلى سبيل المثال فقد ذكر شحرور "أنَّ المشكلة تأتي مرة أخرى من زعم الفقهاء أنَّ حلال محمَّد (ص) حلالٌ إلى يوم القيامة، وحرام محمَّد (ص) حرام إلى يوم القيامة، وتأتي من اعتبارهم أنَّ القرارات النَّبويَّة التنظيمية لها قوة التنزيل الحكيم الشامل المطلق الباقي، ناسين أنَّ التحليل والتحريم محصور بالله وحده، وأنَّ التقييد الأبدي للحلال المطلق يدخل حتماً في باب تحريم الحلال، وهذه صلاحية لم يمنحها تعالى لأحد بما فيهم الرُّسُل".[44]
التصنيف البدعي للحديث النبوي
لا نزعم أنَّ كُلّ الحداثيين اتفقوا على تصنيف واحد للحديث، بل فيهم الشاك في أصل السُّـنَّة، وفيهم الذي يقبل المتواتر دون الآحاد، وفيهم من يقبل ما وافق العقل، وفيهم من أخذ المبادرة وفق هذا المبدأ أو ذاك في استحداث تصنيف جديد للسُّـنَّة النَّبويَّة. ونتوقف عند شحرور مرة أخرى، إذ إنه من أكثر الحداثيين تفصيلاً للسُّـنَّة بعد تفكيكها وعرضها على "العقل والواقع". وتصنيفه مرفوق بمدى قبول أو رفض الأصناف التي ابتدعها.
أ. أحاديث الشعائر والطاعة واجبة متصلة للرسول حياً أو ميتاً.
ب. أحاديث الإخبار بالغيب: وهي مرفوضة كلها انطلاقاً من أنَّ النَّبيّ -صلى الله عايه وسلم -لا يعلم الغيب، على حد قوله.
ج. أحاديث الأحكام: فهي تحمل الطابع التاريخي، وبالتالي فهي للاستئناس فقط سواء أكانت متواترة أم غير ذلك، وبناء عليه فهو يؤكد أنَّ القياس فيها غير ملزم.
د. الأحاديث القدسية: فهي عنده مرفوضة لعدم الحاجة إليها، إذ إنَّ التنزيل قادر على تفصيل الأحكام.
هـ. أحاديث حياة النَّبيّ الخاصة ليست محل أسوة لأهل الأرض في كُلّ زمان ومكان.[45]
و. "والأحاديث التي تتحدث عن الفتن، والمهدي والدجال ثُمَّ الموت وعذاب القبر فالحشر والنشر والجنة والنار تجاوزت المئات إلى الألوف، ونحن نطويها دون حساسية أو أسى".[46]
وما يميّز شحرور هو جرأته على طي أحاديث الصحاح واتهام مدونيها بتحريف التنزيل الحكيم، فعند تطرقه لحديث أركان الإسلام، والذي أجمعت الأمة قاطبة على صحته إلاَّ شحرور وجماعته ذكر ما يلي: "كما نجد أنفسنا مع أركان الإسلام المزعومة التي تضم الشعائر فقط، أمام تحريف خطير لما ورد في التنزيل الحكيم"[47]. بل ذهب إلى أكثر من ذلك، وذلك عندما زعم أنَّ هذا الحديث من ابتداع كتب الأصول والأدبيات الإسلامية، حيث قال: "لقد أقامت كتب الأصول والأدبيات الإسلامية أركاناً للإسلام من عندها، حصرتها في خمس هي التَّوحيد والتَّصديق برسالة محمَّد ـصلى الله عليه وسلم ـ والشعائر، مستبعدة العمل الصالح والإحسان والأخلاق من هذه الأركان. فالتقت دون أن تقصد بالعلمانيين والماركسيين من أصحاب مشاريع الحداثة والتجديد، كما أسلفنا. ووقعت دون أن تقصد أيضاً فيما وقع فيه اليهود والنَّصّارى"[48].
وقد يحتاج المرء أن يسأل نفسه أحياناً ما إذا كانت جعجعة الحداثة قد أنتجت فعلاً هذه الطحينة الهزيلة، خصوصاً وأنَّ الكاتب لا3 يعد نفسه من الحداثيين ولا من التجديديين ولا من السلفيين، وقد جادت قريحة شحرور العلمية بأركان الإسلام التي يوضحها كما يلي:
الإيمان تسليماً بوجود الله.
الإيمان تسليماً باليوم الآخر.
العمل الصالح والإحسان.
يحاول شحرور فيما يبدو المزج بين الإيمان كعقيدة والإسلام كعمل، فأصبح للإيمان ركنان وللإسلام ركن واحد. ولا يخفى أن الاختزال الذي لجأ إليه شحرور يهدف إلى الاهتمام "بالجوهر" والتقليص من الشعائر. وقد خفي على شحرور أن أركان الإسلام الخمسة قد تضمنت الأركان التي اخترعها من عنده. فالشهادة قد تضمنت النواحي الإيمانية التي حرص عليها شحرور. أما الصلاة والزكاة والصوم والحج فهي الجانب العملي للشهادة وهي أعمال كما لا يخفى في قمة الصلاح والإحسان. بل إن أبعادها الروحية والنفسية والاجتماعية والحضارية أكثر من أن تحصى. فالصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر. والزكاة قمة التكافل الاجتماعي، والصوم امتناع عن المعاصي وتمثل بالملائكة، والحج سياحة روحية وبذل نفسي في سبيل مرضاة الخالق، فضلاً عن تحقق قدر من وحدة المسلمين التي ينشدها كل مسلم.
ثم إن الحديث مما روته كتب الصحاح وتلقته الأمة بالقبول والامتثال ووقع عليه الإجماع المفيد للقطع. وخفي على شحرور وعلى كل من ينكر هذا الحديث أن فائدة الإجماع هو تحويل الظني إلى قطعي[49]. وقد أكد ابن رشد رائد البرهان في نظر الحداثيين أن "ما نُقل نقل آحاد، فإن الإجماع ينقله من رتبة الظن إلى رتبة القطع"[50]، هذا على اعتبار أن حديث أركان الإسلام حديث آحاد.
وخفي على هذا المفكر وأمثاله أنه يعيش في عصر ما بعد الحداثة حيث وضعت القيم في محك النظر وخلص الأمر عند أقطاب فكر ما بعد الحداثة أمثال ميشال فوكو وغيره أن القيم نسبية ولا مجال لوصف هذا العمل بالصلاح أو الفساد إلا ما تحدده الظروف المحيطة بذلك العمل. بمعنى أن القيم غير ثابتة ويمكنها أن تسبح في فضاء النسبية إلى ما شاء الله. من هنا غاب الميزان الأخلاقي في العصر الحديث، حيث أصبح الظلم عدلاً، والخير شراً، والمقاومة إرهاباً، والدعوة تحريضاً، والالتزام بالدين" أرثوذكسية" تعادي العقل وتعطل الحداثة في زعمهم.
فما هو العمل الصالح والإحسان اللذان وضعهما شحرور ركنين من أركان الإسلام؟ لماذا هذا التعميم المخل وعدم الإفصاح عن تفاصيل هذه الأركان؟ لا يمكن بأي دين أو فكرة أو مشروع أن ينجح في أرض الواقع إلا إذا تحددت معالمه وترسخت أركانه وبانت للناس ثوابته ومتغيراته حتى تتحدد مجالات الطاعة ومجالات الاجتهاد.
وإذا كان لكل وطن ثوابته وللخطاب القومي العربي ثوابته وللحداثة ثوابتها فلماذا لا يكون للدين ثوابت واضحة تحفظ له حدوده وتضمن له صيرورته. ثم إن هذه الشريعة "أميّة" - على حد تعبير الإمام الشاطبي - نزلت لتراعي "الفهم الجمهوري" لا النخبة، وتقتضي هذه الأمية أن تحدد الشريعة لجمهور المكلفين أركاناً واضحة قطعية الثبوت والدلالة.
نظرة في آليات التفكيك النصي
السؤال الذي يطرح نفسه في هذا المقام هو ما إذا كانت آليات تفكيك الخطاب الديني والبشري تتصف بالعلمية، وهل هي مجمع عليها ؟ هل نجحت في نقد الخطاب الديني وقراءته قراءة إيجابية؟ وهل الخطاب الديني بالضرورة معاد للحداثة بحيث يحتاج إلى تفكيك وتركيب؟ وهل بالضرورة وضع التراث والحداثة في إطار عدائي لا يتصور الجمع بينهما؟ إن الذي يراجع تطور علم الألسنيات في الغرب ويتأمل في الهرمنيوطيقا التي استخدمت في نقد النصوص الدينية يخلص إلى القول إن النظريات "السيمنتية" و"البراغماتية" لم تصل بعد إلى مستوى تحليل أي خطاب ديني فضلاً عن نقده أو تفكيكه. فالبعد البراغماتي في اللغة يحرص على بيان علاقة اللفظ باستعماله في زمان ومكان محدد[51]، أي سلطة الزمان والمكان على النص الديني.
بينما في المفهوم الإسلامي، الخطاب الديني المتمثل في القرآن والسنة غير خاضع لهذه السلطة إلا ما تقتضيه متطلبات تنزيل النص على الواقع. ذلك لأن الزمان والمكان مخلوقان بينما خطاب الوحي صفة من أوصاف المخاطِب وهو الله سبحانه وتعالى، وهو متعال عن سلطة الزمان والمكان. ومن ناحية أخرى انتقدت نظرية ويقنشتاين التي حصرت البعد البراغماتي للنص في حدود استعماله فقط، فنشأت ما يسمى بالسيميائية النصية التي حاولت الجمع بين البعد البراغماتي والسيمنتي (الدلالي) واللغوي للنص، لكنها لم تفلح في التخلص من البعد الإبستيمي، وهي التصورات والأفكار المسبقة التي يحملها المخاطِب والمخاطَب. وعليه فمن الذي يضمن أن الناقد للنص الديني حيادي وموضوعي ومن الذي يضمن أنه غير متأثر بدوافعه التفكيكية والحداثية المسبقة؟ وهل يشترط فصل النص عن مؤلفه حتى يُفهم ويُفعّل تفعيلاً إيجابياً؟ هذا ما لا نجد له جواباً شافياً في أطروحات الحداثيين.
الخاتمة
بات من الواضح أن الحداثة مشروع يهدف إلى مساءلة الماضي واعتباره إشكالية رئيسية في مسيرة الحضارة الإنسانية. وبات جلياً أن للحداثيين مشكلة مع الدليل النقلي المتمثل في القرآن والسنة حيال قراءتهم لهما قراءة تفكيكية وتبين للعيان ما تمخض عنه جبل الحداثة من التشكيك في مصدرية القرآن وحجية السنة النبوية المطهرة ورفض أحاديث الآحاد عند بعضهم وإحاطتها بهالة من شكوك من طرف البعض الآخر. وتبينت هشاشة المنهج التفكيكي لأنه يطبق مبادئه في حقل مختلف تمام الاختلاف عن الحقل الذي نشأ فيه. واتضح أن هناك عوامل تمنع من تطبيق الهرمينوطيقا على النص النبوي.
وأهم هذه العوامل هي نسبية المنهج الهرمينوطيقي وإطلاقية النص النبوي، ولا يمكن للنسبي أن يكون حاكماً على المطلق كما يقر الحداثيون أنفسهم. ومن العوامل الأخرى هو تحرر النص النبوي بوصفه وحياً عن قيود الزمان والمكان، بينما يقتضي الفكيك التأكيد على تاريخية النص النبوي ووجوب دراسته وإطاره الزماني والمكاني. ويمكن أن نستنتج من هذا كله أن الحداثة فشلت في إحياء التراث كما عجزت عن قراءة النص الديني على العموم والنص النبوي على الخصوص قراءة إيجابية وبالتالي فشلت الحداثة في تحقيق التصالح مع التراث وتوضيف مخزونه الحضاري في إحداث التطور النشود.
مفهوم السُّـنَّة عند الحداثيين
أ. السُّـنَّة بين الوحي والتُّراث
ب. تاريخية النَّصّ النبوي وآلية تفكيكه
ج. احتمالية النَّصّ النبوي سنداً ومتناً
آثار عقلنة النَّصّ النبوي وتفكيكه
التصنيف البدعي للحديث النبوي
نظرة في آليات التفكيك النصي
الخاتمة
ما من شك في أنَّ محاولات النيل من السُّـنَّة والتشكيك في حجيتها أصبح ديدن أقطاب الصراع الفكري الذين يتحركون وراء الستار، ويتسترون بسلطة العلم والعقلانية والموضوعية. ومع بروز الفكر الحداثي في الغرب وانتقاله للشرق برزت مجموعة من المفكرين المسلمين رأوا في الحداثة الغربية سفينة النجاة التي تحمل معها بشائر الحضارة والتطور. وقد ألقي الفكر الحداثي بظلاله على المقومات الفكرية والحضارية للأمة العربية والإسلامية، حتى بدت ملامح تأثيره واضحة على المجتمع المسلم حيث أصبح المسلم فيها حائراً بين تراث يرجع في أسسه إلى سلطة الوحي، وبين حداثة تقدّس العقل وتشكك في النقل. وكانت السُّـنَّة النَّبويَّة من ضمن هذا النقل الذي طالته يد التشكيك، بدأه مستشرقون كأمثال جولد زيهر وتلقفه "مفكرون مسلمون تقدميون" من أمثال محمَّد أبي رية، وطه حسين، وعلي عبد الرازق.
ليس من هدف هذا البحث إعادة اجترار الردود التي صدرت ممن دافعوا عن السُّـنَّة ونافحوا عنها كأمثال الشيخ مصطفى السباعي والشيخ عبد الغني عبد الخالق وغيرهما من السيل الجرار الغيورين على السُّـنَّة النَّبويَّة، إنما الهدف هو تقويم المحاولة التي وصفت بالعلمية التي قام بها الحداثيُّون الذين ما زالوا أحياء ويتربعون على عرش الحداثة المبشرة بالحضارة والتقدم. وقد اخترت منهم مجموعة بوصفها ذات موقع استراتيجي في مشروع نقد النَّصّ والعقل الإسلامي، وأيضاً لما تحتله من مكانة في صناعة "البديل"، وتحريك آليات الحداثة التي ظلت تنقص المجتمع الإسلامي منذ عصر النهضة الأوروبية، على حد زعمهم. وسندخل مع هؤلاء المفكرين في حوار هادئ لنرى مدى علمية وعقلانية الطروحات التي يحتفي بها "رواد الحضارة"، أو "رواد الحداثة".
في مفهوم الحداثة
عادة ما يطلق مصطلح الحداثة في إطار تقابلي يجعل من التقدم والحضارة معاني مترادفة، كما أنه يجعل مقابل الحداثة معاني مثل الرجعية والتخلف والتقليد والأصولية. وقد تأصلت هذه المعاني في عصر النهضة لما احتفل الغرب بانتصار العقل على اللاهوت، أو "الدوغمائية" على حد تعبير محمَّد أركون. وأصبحت الحداثة تعرّف بمعاييرها التي صاغها أقطاب العقل الفلسفي أمثال ديكارت ومنهجه التشكيكي، وهيوم وبيكون ومل، ومنهجهم الاستقرائي الإمبريقي، ونيتشه وفوكو والنسبية التَّاريخيَّة الأخلاقية. وأصبحت الحداثة تعني التصنيع والتحديث والتطور السياسي والتقدم والتنمية والعقلانية. [1]
وفي خضم تفاعل آليات هذا المشروع الحضاري الضخم نشأت آليات التعامل مع التُّراث بوصفه الفكر "القديم". وهنا لا بُدَّ أن أسجل أنَّ أوروبا لم تكن بصدد إحداث قطيعة مع تراثها بقدر ما كانت تسعى جاهدة إلى استحداث آليات تمكنها من قراءة التُّراث قراءة إيجابية. لم تكن أوروبا قادرة على التخلص من "الدوغمائي" لأنه كان وما يزال يشكل العقل الروحي الذي بعث أوربا إلى الوجود الحضاري مع تحول الخلق البروتستانتي إلى المشروع الرأسمالي والذي مكّن أوروبا من إتقان فن التعامل مع المادة. وكانت الدِّراسات المهتمة بالتعامل مع النَّصّ في طور إنشاء علم الألسنيات وطرق تأويل الخطاب ومناهج النقد التاريخي التي وظفت كلها للتعامل مع النَّصّ المُقدَّس والبشري. وانتهى المطاف بهذه الدِّراسات إلى إلغاء المُقدَّس وتمجيد العقل والواقع وجعلهما حاكمين لا محكومَين ذواتا سلطة ترجَّح على سلطة النَّصّ.
لم يكن العالم الإسلامي بعيداً عن التطور الحضاري الهائل الذي حدث في الغرب، وكان من شبه الطبيعي أن يتوق أصحاب القرار إلى اللحاق بركب الغرب ومواكبة منجزاته، إلاَّ أنه الذي لم يكن طبيعياً أن يحصل هذا التحديث على حساب المقومات الأساسية والعقائدية للأمة الإسلامية، فبدأت مشاريع التحديث على مستوى جميع الصُّعُد، وبات راسخاً في أذهن بعض المفكرين والقانونيين أنَّ نقطة البداية في مشروع الحداثة المنشود هو النظر من جديد في النُّصّوص المُقدَّسة التي تمارس سلطتها منذ العصر النبوي إلى الآن.
فقد وُضع النَّصّ القرآني والنَّصّ النبوي في محك النظر والنقد والتفكيك (دون التركيب) ليؤول هذا النَّصّ في النهاية إلى مجرد خطاب يمكن نقده ونقضه، "ففي نقد النَّصّ تستوي النُّصّوص على اختلافها ...(و) هنا يمكن الجمع بين النَصّ الفلسفي والنَّصّ النبوي" [2]. ولقد استهدفت السُّـنَّة النَّبويَّة المطهرة من قبل الحداثيين المسلمين فأخضعوها لمناهج تأويل النَّصّ الإنجيلي، وحكّموا فيها العقل ووضعوها موضع النقد، وجرّحوا في رواد علم الحديث ونسفوا أعمالهم واتهموهم باتهامات سنوضحها في موضعها.
وقد خاض هؤلاء في طبيعة النَّصّ النبوي بوصفه نصاً يفهمه عامَّة المسلمين لأنه يستلهم الوحي ويستمد منه حجيته وصيرورته. فراح هؤلاء يضربون في هذه المسلَّمة العقدية والتشريعية بوصف السُّـنَّة مرة بالتُّراث [3]، وأنها لا تجانب الحقيقة [4]، وأنها ليست وحياً [5]، وبالتالي فهي تاريخية غير أبدية [6]، وغيرها من الأطروحات التي سنناقشهم فيها بطريقة هادئة غير عنيفة ولا عاطفية.
وحري بالقول، إن العلماء أسسوا علم مختلف الحديث وعلم ميزان الرجال والجرح والتعديل وتاريخ الرواة وعلم تأويل مشكل الحديث، والناسخ والمنسوخ ومعرفة غريب الحديث وعلله ومعرفة الموضوعات وكشف حال الوضاعين وعلم أصول الرواية، وغيرها من الفنون التي إن دلت على شيء فإنما تدل على أنه لم يلق خطاب أو نص من الرعاية والتثبت مثل ما لقي نصَّا القرآن والسنة. ويدل هذا أيضاً على أنَّ الإشكالات التي يثيرها الحداثيُّون جاءت متأخرة جداًَ لوجود نظيراتها في التَّاريخ الإسلامي والتي استدعت تأسيس هذه الفنون دفاعاً عن حياض السُّـنَّة من انتحال المبطلين وخبث المغرضين.
ولا بد من التنبيه إلى أن التيار الحداثي الذي سنحاوره هو ذلك التيار الذي ينطلق من منطلقات قومية واستغرابية في نقده للتراث الإسلامي والتعامل مع نصوصه المقدسة، ولا نقصد التيار التجديدي الإصلاحي الذي ينظر في التراث الإسلامي من منطلقات إسلامية وبدوافع تجديدية تهدف إلى تصفية التراث الإسلامي مما علق به من أفكار دخيلة وتأويلات فاسدة لنصوصه الشرعية، ومحاولة قراءة النصوص الشرعية وفق قاعدة الثابت والمتغير الشرعية من أجل صياغة المشاريع الإصلاحية وتحقيق الشهود الحضاري المنشود.
مفهوم السُّـنَّة عند الحداثيين
يتعلق مفهوم السُّـنَّة عند الحداثيين بالأسس الفكرية والخلفيات الوضعية التي ينطلقون منها، فتغلغل المنطق الوضعي في الفكر الحداثي وممارسته لسلطته المطلقة على الساحة الفكرية جعل الحديث عن المسلّمات رهن الجدال، وحوّل المُقدَّس إلى بضاعة مزجاة يتاجر فيها كُلّ من رفض سلطة المُقدَّس. وسوف نعرض لأهم طروحات الحداثيين حول السُّـنَّة والرد عليها في النقاط الآتية:
أ. السُّـنَّة بين الوحي والتُّراث
يرى الحداثيُّون بدرجات مختلفة أنَّ السُّـنَّة تراث أكثر من أن تكون وحياً. وقد ذكر الفيلسوف الجزائري الأصل محمد أركون المتربع على كرسي الدِّراسات الإسلامية في جامعة السوربون بفرنسا في معرض ردّه على من يصفهم بالمتشددين أنهم "يعتقدون أنَّ التُّراث (السُّـنَّة) [7]ينبغي أن تتغلب على كُلّ بدعة" [8]. واعتبار السُّـنَّة تراثاً يتطلب تجريدها من سماتها الخاصة التي جعلت منها مصدراً ثانياً للشريعة الإسلامية. ويستلزم من ذلك اعتبار السُّـنَّة مجرد خطاب أو نص ظهر في التَّاريخ لمهمة خاصة ليس لها طابع الديمومة.
ويضعنا مصطلح "التُّراث" في مغالطة وجودية وفكرية حينما يفترض أنَّ السُّـنَّة مجرد نص يمكن إخضاعه للنقد وبالتالي يمكن قبوله أورفضه، وهذا ما جعل محمَّد شحرور يؤكد بكل جرأة أنَّ "السُّـنَّة النَّبويَّة، أي ما فعله وقاله وأقره النَّبيّ الكريم (ص) ليست وحيا"ً [9]، وراح يستدل على ذلك بقضايا لغوية وعقلية أبعدته عن جادة الصواب. وإنَّ أخطر ما توصلت إليه دراسة شحرور حول السُّـنَّة هي وصفها بالتاريخية، وأنها كلها اجتهاد من طرف النَّبيّ-صلى الله عايه وسلم . وأنَّ عدالة الصحابة وإجماعهم أمر يخص الصحابة وحدهم[10]، وأنَّ ما قيدته السُّـنَّة يمكن إطلاقه مرة أخرى مع تغير الظروف الموضوعية، وأنها ـ أي السُّـنَّة ـ اجتهاد في حقل الحلال يخضع للخطأ والصواب، وبالتالي فإنَّ ما تأتي به السُّـنَّة ليس شرعاً وإنما هي قانون مدني يخضع للظروف الاجتماعية.[11]
يستغل شحرور المواضيع المثارة في الدِّراسات الإسلامية حول السُّـنَّة والمتعلقة بقضايا شبيهة بما ذكره ولكنها ليست ضمن الإطار الذي يريد هذا الكاتب وضع السُّـنَّة فيه. فقد فرقت الدِّراسات الإسلامية العلمية حول السُّـنَّة بين السُّـنَّة التشريعية وغير التشريعية، وبين تصرف النَّبيّ -صلى الله عايه وسلم- كرسول وقاضٍ وإمام، ونبهت إلى بشريته -صلى الله عايه وسلم- التي لا يوافقها الوحي أحياناً حينما تجتهد تحت شعار "أنتم أعلم بأمور دنياكم"، وأكدت أنَّ النسخ في السُّـنَّة حاصل للتدرج في التشريع والتيسير على المكلفين.
إن خطأ شحرور يكمن في منهجه التعميمي الذي جعل من القضايا السالفة الذكر السمة الغالبة للسُّـنَّة النَّبويَّة، وهو بالتالي يستدل بالجزء على الكل، ويستنبط دون وجود أدلة كافية تشكل قاعدة للاستنباط. ومصيبة شحرور أنه يفرق بين محمَّد -صلى الله عايه وسلم- كنبي ومحمَّد كرسول، إذ نقرأ هذا في نص جريء: "ومن هنا فنحن لا نجد في التنزيل الحكيم أمراً بطاعة محمَّد البشر الإنسان، ولا أمراً بطاعة محمَّد النَّبيّ، بل نجد أكثر من أمر بطاعة محمَّد الرَّسُول، لماذا؟ لأن الطاعة لا تجب إلاَّ لمعصوم، ومحمَّد الإنسان ليس معصوماً، ومحمَّد النَّبيّ ليس معصوماً، ومحمَّد الرَّسُول هو المعصوم في حدود رسالته حصراً الموجودة في التنزيل"[12]. ويخلص إلى أنَّ "النبوة تحتمل التَّصديق والتكذيب"[13]، ويحصر شحرور عصمة الرَّسُول في تبليغ الذكر الحكيم، وعدم الوقوع في الحرام وتجاوز حدود الله[14].
يقتضي طرح شحرور هذا أمرين أساسيين: أولاً: قصر السُّـنَّة على مجرد نقل الوحي إلى البشر دون تمتعها بصلاحية تبيينه وتفسيره. وثانياً: مساواة النبي محمَّد -صلى الله عليه وسلم- في اجتهاده بباقي البشر. أمَّا الأمر الأوَّل فهو انتقاص لدور الرَّسُول الذي يرى شحرور أنه يتمتع بالعصمة بوصفه رسولاً لا نبياً، فما قيمة رسول معصوم إذا كان يلعب دور آلة اتصالية مبرمجة سلفاً لنقل خطاب من المخاطِب إلى المخاطَب دون أن تُعطى لها صلاحية البيان.
إنَّ نظرية الاتصال المعاصرة تؤكد أنه إذا كانت وسيلة الاتصال شخصاً فلا بُدَّ أنَّ يتمتع هذا الشخص بقدر من الحرية الفكرية والاستقلالية الذاتية والمرونة الخطابية التي تقتضيها طبيعة صاحب الخطاب الأصلي والمخاطَب. ذلك لأنَّ الخطاب لفظ ومعنى، وتبليغه يقتضي أساليبه من تصريح وكناية وحقيقة ومجاز وإشارة وإيماء وغيرها من الأساليب التي لم يلزم الوحي محمَّداً e بأي واحدة منها لتبليغ الرسالة، بل أباح له استخدام جميعها . أمَّا الأمر الثَّاني، فإنَّ طرح شحرور يتجاهل جواز وقوع خطأ في اجتهاد النَّبيّ مع عدم إقرار الوحي له، فلقد ذكر الآمدي أنَّ القائلين بجواز الخطأ من الرَّسُول متفقون على أنه لا يقر علي خطأ، بل لا بُدَّ من تنبيهه. وذكر ابن الحاجب أنَّ المختار أنه e لا يقرُّ على خطأ في اجتهاده، وهو ما أكده أحد عمالقة المنافحين عن السُّـنَّة النَّبويَّة، العلامة الدكتور عبد الغني عبد الخالق بقوله: "إنه لا يُعقل أن يذهب ذاهب إلى جواز الخطأ مع التقرير عليه".[15]
وتتأكد مزاعم تراثية النَّصّ النبوي على لسان نصر حامد أبو زيد، الذي ربط بين دراسة النَّصّ القرآني وبين النَّصّ النبوي في بيان منزلة السُّـنَّة، حيث ذكر أنَّ "النَّصّ منذ لحظة نزوله الأولى مع قراءة النَّبيّ له لحظة الوحي تحول من كونه نصاً إلهياً وصار فهماً إنسانياً، لأنه تحول من التنزيل إلى التأويل ... ولا التفات لمزاعم الخطاب الديني بمطابقة فهم الرَّسُول للدلالة الذاتية للنص" [16]. ولا يكترث نصر بالقول عندما يؤكد أنَّ مصطلح التأويل "بدأ يتراجع بالتدريج، ويفقد دلالته المحايدة، ويكتسب دلالة سلبية، وذلك في سياق عملية التطور والنمو الاجتماعيين ..." [17] .
يحتوي هذا النَّصّ على أغلوطة فاضحة لم يكلف نصر نفسه عناء البرهنة عليها وهي أنَّ السُّـنَّة تأويل للقرآن الكريم. ولا يخفى ما يحمله مصطلح التأويل من تحريف في بيان العلاقة بين القرآن والسُّـنَّة. إذ إنَّ بيان الرَّسُول -صلى الله عايه وسلم- للقرآن الكريم من خلال تخصيص عامّه، وتقييد مطلقه، وتفصيل مجمله أصبح كله تأويلاً ـ في نظر نصر ـ لا يهم ما إذا طابق أو خالف الدلالة الذاتية للنص القرآني. إنّ تحوّل البيان إلى تأويل يفترض استقلالية المؤوِّل للمؤوَّل، أي تمتع المؤوِّل بسلطة يمارسها على النَّصّ بدل أن تكون للنص سلطة مطلقة تمنح للمؤوِّل مجال البيان فقط. إنَّ الرَّسُول e كما شهدت الآيات بذلك كان مبيِّناً للقرآن في حدود العموم والإجمال الذي اتسمت به بعض الآيات. وما أضافته السُّـنَّة من أحكام شرعية يعد من البيان على حد تعبير الإمام الشافعي[18]، وإقرار علماء الأمة بذلك.
وقد يكون التأويل مدخلاً إلى النقد على حد ما مورس في تأويل الكتب الدِّينيَّة في اليهوديَّة والمسيحيَّة تحت اسم الهرمنيوطيقا ـ Hermeneutics والذي انتهى المآل بالمؤولين إلى تأكيد تاريخية النَّصّ المُقدَّس، وهو ما سنبحثه في النقطة التالية.
ب. تاريخية النَّصّ النبوي وآلية تفكيكه عند الحداثيين
اقتضى المنهج الحداثي إخضاع النَّصّ المُقدَّس لآليات التفكيك والنظريات الألسنية الحديثة. ولقد رأى بعض الحداثيين ضرورة ذلك، فكما أكد محمَّد أركون "من الملحّ والعاجل ـ من وجهة نظر التَّاريخ العام للفكر - أن نطبق على دراسة الإسلام المنهجيات والإشكاليات الجديدة، نقصد بذلك تطبيق المنهجيات والآفاق الواسعة للبحث من تاريخية وألسنية وسيميائية دلالية وأنثربولوجية وفلسفية" [19]. وقد دشن أركون مشروعه التفكيكي بوضع النَّصّ القرآني موضع التساؤل والنقد، وبهذا العمل ـ على حد تعبيره ـ: "فإننا نخضع القرآن لمحك النقد التاريخي المقارن أو للتحليل الألسني التفكيكي" [20]، ومن مقتضيات التفكيك اعتبار الأمور الآتية:
1.انعدام الدليل النقلي الخالص:
لا يؤمن التيار الحداثي بوجود دليل نقلي خالص، وأنه ـ على حد تعبير حسن حنفي ـ: "لا يعتمد على صدق الخبر سنداً أو متناً وكلاهما لايثبتان إلاَّ بالحس والعقل طبقاً لشروط التواتر، فالخبر وحده ليس حجةً ولا يثبت شيئاً على عكس ما هو سائد في الحركة السلفية المعاصرة على اعتمادها المطلق على: "قال الله"، و"قال الرَّسُول" واستشهادها بالحجج النقلية وحدها دون إعمال الحس والعقل، وكأن الخبر حجة، وكأن النقل برهان، وأسقطت العقل والواقع من الحساب في حين أنَّ العقل أساس النقل" [21]. وفي معرض حديثه عن التواتر ذكر أنَّ "السُّـنَّة دليل بشرط تواترها كما هو معروف في شرط التواتر في نقل الرسالة" [22]. وهو تناقض صارخ في اعتبار السُّـنَّة المتواترة دليلاً في هذا النَّصّ، وإنكاره لذلك في النَّصّ الذي قبله، هذا بالرغم من موافقة الحس والعقل للحديث المتواتر بناءً على مبدأ استحالة التواطؤ على الكذب، وأن يكون مستند خبر الرواة الحس كما أكد على ذلك علماء السُّـنَّة والأصول.
2. اعتبار النَّصّ النبوي خطاباً لغوياً قابلاً للنقد:
بناءً على ما تم تأكيده من طرف التيار الحداثي من تراثية السُّـنَّة النَّبويَّة، وبناء على فرض التساوي بين أنواع الخطاب، فإنَّ النَّصّ النبوي يصبح عرضة لمناهج الألسنيات الحديثة وتحليل الخطاب التاريخي ونقده، ففي منطق النقد "يستقل النَّصّ عن المؤلف" [23]، كما أكد علي حرب في كتابه "نقد النَّصّ". وما دام أنه أكد قبل هذا على تساوي النَّصّوص، فلا فرق عنده إذاً بين النَّصّ النبوي والنَّصّ البشري.
وبالتالي تم تفكيك أهم علاقة تربط النَّصّ النبوي بالوحي لتُجرَّد السُّـنَّة بعد ذلك من شرعيتها التي منحها إياها الوحي. ثُمَّ ينتقل هذا المنهج إلى تفكيك النَّصّ النبوي عن الحقيقة. فقد أصبحت هذه الأخيرة هي الأخرى محل نقد لارتباطها بالنَّصّ النبوي. يقول علي حرب: "فالنَّصّ النبوي، مثلاً، لا تكمن أهميته في كونه يروي الحقيقة أو يتطابق معها، بل تكمن بالدرجة الأولى في حقيقته هو...". [24]وهكذا يصبح النَّصّ النبوي نفسه موضع المساءلة ما إذا كان حجة أم لا، فضلاً عن تضمنه رسالةً للبشرية، أو كونه هدى وبشرى للعالمين.
إنَّ هذا المنهج يضحي بالقيم الحضارية والإنسانية التي تضمنتها رسالة خاتم النَّبيّين، ويجعل العقل النسبي حاكماً على العقل المطلق الذي باركه الوحي وخوّله مهمة هداية البشرية. وعليه ما فتئ المدافعون عن السُّـنَّة النَّبويَّة كالسباعي وعبد الخالق التأكيد على أنَّ التشكيك في السُّـنَّة هو تشكيك في القرآن نفسه. ونضيف أنَّ التشكيك في القرآن هو تشكيك في حقيقة الوجود الإنساني، أو هي دعوة إلى العبثية بقوانين الفكر وتكريس للعقلنة المتشرذمة التي لا يضبطها ضابط ولا تنأى بنفسها عن الأصولية التي طالما اتهم بها الحداثيُّون جمهور المسلمين الذين ينشدون: "قال الله، وقال الرَّسُول"، وفق حدود فهم هذين المصدرين التشريعيين المهمين.
3. الخطاب النبوي حجاب:
بما أنَّ النَّصّ النبوي "لا يقول الحقيقة بل يخلق حقيقته" في نظر الحداثيين، فإنه ينظر إليه من طرف هؤلاء على أنه حجاب، يحجب الحقائق المطلقة التي يجب أن يفكر فيها، وعليه فـ "استراتيجية النَّصّ تقوم على جملة من الألاعيب والإجراءات يمارس الخطاب من خلالها آلياته في الحجب والتبديل والنسخ. والنَّصّوص سواء في ذلك" [25]، وعليه يقتضي المنهج التفكيكي أن يقوم "التعامل مع النَّصّ على كشف المحجوب" [26]. أي مساءلة حقيقة النَّصّ ومصدره حتى لا يحجب ما يجب أن يكون محل مساءلة ونقد، وهذا اتهام بأن الخطاب النبوي خطاب "ديماغوجي" أو "دوغمائي" يسعى لحجب الحقائق وصرف الناس عن قضايا تتعلق بحجية السُّـنَّة.
وحتى لا نقع في التعميم، ليس كُلّ الحداثيين ينظرون إلى السُّـنَّة بهذا المنظار، فإنَّ منهم من بلغ به الشطط إلى تسوية السُّـنَّة بأي خطاب بشري كعلي حرب، وأركون، وحنفي، وشحرور، و منهم من خفف الوطأة كالجابري الذي كان حذراً من الشطط الذي وقع فيه الآخرون، وإن كان هو نفسه لم يسلم من بعض الشطط عندما حاول التأصيل لمشروع التوفيق بين التُّراث والحداثة. ففي معرض حديثه عن الحديث الصحيح ذكر أنَّ "كتب الحديث الصحيحة، كصحيحي البخاري ومسلم إنما هي صحيحة بالنسبة للشروط التي وضعها أصحابها لقبول الحديث، الحديث الصحيح ليس صحيحاً في نفسه بالضرورة... وإنما هو صحيح بمعنى أنه يستوفي الشروط التي اشترطها جامع الحديث كالبخاري ومسلم" [27].
إنَّ في تلقي الأمة الإسلامية قديماً وحديثاً للصحيحين بالقبول ما يغني عن بيان قيمة هذين الكتابين باعتبارهما أصح كتابين تضمنا سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولقد اعتبر محمَّد شحرور هذه المقولة بأنها من أكبر المغالطات، حيث جاء في أصوله الجديدة: "يقولون صحيح مسلم وصحيح البخاري، ويقولون إنهما أصح الكتب بعد كتاب الله، ونقول نحن: هذه إحدى أكبر المغالطات التي ما زالت المؤسسات الدِّينيَّة تُكره الناس على التسليم بها تحت طائلة التكفير والنفي"[28].
ولا يعني هذا أبداً أننا نغمض عينينا على ما لا يزال البحث فيه قائماً في الدِّراسات الحديثية من الاستدراك على البخاري ومسلم وتصحيح ما اعتبره البخاري نفسه غير صحيح وفق شروط الحديث الصحيح المعروفة، إلاَّ أنها تبقى استدراكات وليست محاولة للتشكيك في منهج البخاري في التثبت في نقل الحديث سنداً أو متناً، أومحاولة لاعتبار تدوين السُّـنَّة إرهاصاً من إرهاصات تشكل "أرثوذكسية" على حد تعبير أركون، يقول هذا الأخير: "ثُمَّ راحت الأرثوذكسيات الكبرى تتشكل تاريخياً عن طريق تأليف كتب الحديث أو الصحاح، أقصد الأرثوذكسية السنية والأرثوذكسية الشيعية والأرثوذكسية الخارجية" [29].
وإقحام مصطلح "الأرثوذكسية" على السُّـنَّة المطهرة، إقحام يمجّه البحث العلمي وكُلّ من تذوق سموّ السُّـنَّة النَّبويَّة عن أن تكون خطاباً لاهوتياً يسعى إلى حجب الحقائق عن طريق آليات الحجب، خصوصاً إذا كانت السُّـنَّة النَّبويَّة تسعى إلى تبليغ أسس العقيدة الصافية. ولذلك لم تسلم السُّـنَّة المطهرة حيال حملها المعاني العقيدية للبشرية، لم تسلم من وصفها ضمناً بأنها: "خطاب أحادي قائم على الحصر والاستبعاد والإدانة والإقصاء..." [30]. ولذلك لم يتوان أركون من اعتبارها إحدى شطحات الشافعي الذي حسب زعم أركون - هو الذي أضاف السُّـنَّة إلى القرآن بوصفها، أي السُّـنَّة، مصدراً ثانياً من مصادر التشريع الإسلامي [31]. واعتبر الرسالة متأثرة بعقلٍ (أي بعقل الشافعي) "ينمو ويترعرع داخل إطار مجموعة نصية Corpus، ناجزة ومغلقة على ذاتها، نقصد بذلك القرآن والحديث".[32]
ج. احتمالية النَّصّ النبوي سنداً ومتناً
ممَّا يتفق عليه الحداثيُّون والمحدِّثون أنَّ السُّـنَّة المنقولة إلينا ليست كلها صحيحة، وهو ما استدعى تأسيس جملة من العلوم تنظر في الحديث سنداً ومتناً. إلاَّ أنَّ الحداثيين ذهبوا إلى أبعد من ذلك وهو ـ كما رأينا سابقاً ـ وضع "سؤال السُّـنَّة" في محك النقد من حيث نفي حجيتها بوصفها تأويلاً للقرآن وخطاباً لغوياً كسائر الخطابات البشرية، وفي هذا السياق يتم تجريد النَّصّ النبوي أو بالأحرى الدليل النبوي من أهم خاصية يتمتع بها، وهي كونه يدور بين القطعية والظنية من حيث الثبوت والدلالة.
سوف نتجاوز أولئك الحداثيين الذين هداهم منهج النقد التاريخي ونقد النَّصّ الديني إلى التشكيك في حجية السُّـنَّة، ونبقى مع أولئك الذين ترددوا بين الإنكار والإقرار.
من حيث السند، لا تعتبر السُّـنَّة دليلاً إلاَّ إذا كانت متواترة بشرط موافقة الحس على ذلك كما رأينا مع حسن حنفي وذلك في قوله: "والحقيقة أنَّ الدليل النقلي الخالص لا يمكن تصوره لأنه لا يعتمد إلاَّ على صدق الخبر سنداً أو متناً، وكلاهما لا يثبتان إلاَّ بالحس والعقل طبقاً لشروط التواتر" [33]. وخطأ حنفي أنه جعل النقل تابعاً للعقل ونصب العقل حاكماً على النقل، بل إنه وقع في الدور عندما زاد: "وبالتالي فإنَّ الحجج النقلية كلها ظنية حتى لو تضافرت واجمعت على شيء أنه حق لم يثبت أنه كذلك إلاَّ بالعقل"[34]، إذ إنه في هذه الفقرة يحدد المنهج الذي تثبت به حجية الدليل النقلي ألا وهو التواتر المبني على الاستقراء التام المفيد للقطع حسب ما اتفقت عليه كلمة المناطقة والفلاسفة قديماً وحديثاً، وبالتالي يصبح التضافر أو الاستقراء هو الدليل العقلي في حد ذاته فلا يحتاج إلى العقل مرة ثانية لإثبات معقوليته وإلاَّ لزم الدور.
ثُمَّ لم يبين لنا طريقة حكم العقل على الحجة النقلية التي تضافرت مفرداتها لتشهد على حجيتها، فهل هذا العقل الحاكم، عقل جمعي أم فردي؟ فإن كان جمعياً فهو تحصيل حاصل واستدلال مستلزم للدور، وإن كان فردياً فهو من باب حكم الجزئي على الكلي الغير مستغرق في كليه. وتأبى أسس المنطق الاستقرائي أن تقبل هذه النتيجة[35]، وبالتالي يتهاوى استدلال حسن حنفي من أساسه. وراح يبشر ويحتفي بسلطة العقل على النقل دونما تأصيل عقلاني لمبرررات هذه السُّلطة، وعليه فقد افترض سلفاً أنَّ قوة العقل تفوق قوة النَّصّ لأن النَّصّ في رأيه "لا يثبت شيئاً بل هو في حاجة إلى إثبات، في حين لا يقف شيء غامض أمام العقل، فالعقل قادر على إثبات كُلّ شيء أمامه أو نفيه"[36]. وبفضل هذا الاجتهاد الحنفي " أصبح النَّصّ مجرد صورة عامَّة تحتاج إلى مضمون يملؤها"[37].
وتكمن خطورة هذا التحليل في ثلاثة قضايا: الأولى: النَّصّ النبوي ظني كله سنداً ومتناً. الثانية: العقل أساس فهم النَّصّ النبوي. الثالثة: جعل الواقع أساس الجميع. وتخالف هذه القضايا الثَّلاثة ما اتفق عليه جمهور المسلمين قديماً وحديثاً، فقد اتفقوا على وجود القطعي في السُّـنَّة النَّبويَّة كالنُّصّوص التي تبيّن أعداد الركعات في الصلوات، وعدد الصلوات، ومقادير الزكاة وغيرها، واتفقوا على جعل النقل أساس العقل إلاَّ بعض الفِرق المندرسة كالمعتزلة القائلة بالحسن والقبح العقليين. واتفقوا على أنَّ الواقع معتبر في الشَّريعة بشرط موافقته للنقل، إلاَّ في مواطن تقتضي المصلحة الاجتهاد في النُّصّوص القطعية من باب الاستحسان وتحقيق مناط الحكم، ويبقى ذلك كله دائراً في حالة الاستثناء لا الأصل.
ولم تحل هذه الأسس دون تفتق عقل المسلم الذي راح يبدع في تحقيق معاني الاستخلاف باستخدام آليتي الوحي والعقل في توازن ولّدت تلك الحضارة التي تنطق بسموّ النقل على العقل وتناغمها الفريد، هذا التناغم لا يمكن أن يراه حسن حنفي وهو يؤكد من فراغ أنَّ "أولوية النَّصّ على الواقع تعطي الأولوية للنص على التجديد، وللماضي على الحاضر، وللتاريخ على العصر. يرجع التَّاريخ إلى الوراء لأنه ما زال يعتمد على سلطة الوحي، وأمر الكلمة، وما زال يتطلب الطاعة المطلقة لمجرد الأمر"[38].
وهذه الشطحة تجعل حسن حنفي يستحق بجدارة لقب مجدد الفكر الاعتزالي خصوصاً وهو ينهج منهجهم في ترتيب مصادر الشَّريعة، حيث بيّن أنَّ "ترتيب الأدلة الأربعة: القياس، ثُمَّ الإجماع، ثُمَّ السُّـنَّة، ثُمَّ الكتاب، فعلى الإنسان أن يجتهد رأيه فإن لم يجد ففي إجماع الأمة، حاضراً أو ماضياً، فإنْ لم يجد فعليه بالسُّـنَّة ثُمَّ الكتاب"[39]. وفي رأيه "فالأدلة الأربعة كلها ترتكز على الدليل الرابع، دليل العقل، وبالتالي كانت الأولوية للدليل العقلي على دليل النقل"[40]. ولاحظ حنفي أنَّ "الترتيب التقليدي للأدلة ابتداء بالقرآن فالحديث فالإجماع فالقياس يجعل الهرم قائماً على قمته، والمخروط مرتكزاً على رأسه".[41]
ما فتئ علماء الأمة قديماً وحديثاً يحذرون من خطورة تقديم العقل على النقل لما يترتب على ذلك من هدم الشرائع والمساس بمقدسات الدِّين وهدم أدلته القطعية والظنية بل، كما سنرى، هدم أركان الإسلام برمتها. وما نقل من أن بعض الحنفية والإمام مالك يقدمون العقل على النقل، وأن الطوفي يقدم المصلحة على النص، كل ذلك حرف عن مظانه وسياقه التشريعي الصحيح، وأنه بعد التحقيق الأصولي نجد أن كل هؤلاء يستخدمون العقل في حدود ما يخدم النقل على حد تعبير الإمام الشاطبي رحمه الله.
آثار عقلنة النَّصّ النبوي وتفكيكه
يمكن القول إنَّ المشروع الحداثي في تفكيك النَّصّوص النقلية بما فيها السُّـنَّة قد باءت بالفشل، وهي لا تكتسي أهمية إلاَّ في رؤوس أصحاب هذا المشروع، لذلك فالآثار التي سنتحدث عنها تعني الحداثيين الذين تأثروا بالاستشراق وتولدت لديهم مفاهيم خاصة عن التُّراث بقيت تقلقهم هم ومن نهج نهجهم ممن أعوزه التكوين الشرعي الدقيق.
1. عدم القدرة على التركيب بعد التفكيك:
لقد أوغل بعض الحداثيين في عملية التفكيك إلى درجة العجز عن التركيب، فتفكيكية أركون لم تحقق حلمه في "تجديد الفكر العربي والإسلامي" كما زعم، بل أضحت طروحاته عرضةً للنقد والتفكيك من طرف أقرانه، ولعل أهمها نقد الحاج حمد ـ رحمه الله ـ صاحب العالمية الثانية، وإن كان هو أيضاً رحمه الله ألَّب على نفسه الاتجاه المحافظ لإيغاله أيضاً في دراسة وحدة القرآن المعرفية باستخدام علم الألسنيات المعاصرة.
2. الحكم على السُّـنَّة بأنها تاريخية وبأنها تجربة فردية:
قد يعجب المرء عندما يصور أركون "مجتمع الرسالة" والأهمية التي يكتسيها في إعلان ميلاد حضارة ضخمة بأنها مجرد "تجربة فردية"، إذ ذكر أنَّ "العصر الافتتاحي"-على حد تعبيره- يمثل لحظة ممتازة ومناسبة من أجل دراسة تأثير تجربة فردية (تجربة محمَّد)[42]على قاعدتها اللغوية وإنتاج تاريخ واقعي محسوس..."[43]. وهي دعوة لشخصنة الرسالة، ولذلك يلتقي أركون مع المستشرقين في اعتبار الإسلام قصة شخص عظيم اسمه محمَّد.
3. تحميل الفقهاء والمحدثين والأصوليين مسؤولية اعتبار السُّـنَّة حجة:
يصب الحداثيُّون جام غضبهم ونقدهم على علماء الأمة الذين نذروا أنفسهم لخدمة هذا الدِّين والذبّ عن أصوله، فقد اتهموهم بأنهم يمثلون "الإسلام الكلاسيكي" وأنَّ "خطابهم دوغمائي لاهوتي" وأنَّ ثقافتهم مسطحة وفكرهم عليل، وأنهم يمثلون مشكلة وعقبة في طريق الحداثة المنشودة، وعلى سبيل المثال فقد ذكر شحرور "أنَّ المشكلة تأتي مرة أخرى من زعم الفقهاء أنَّ حلال محمَّد (ص) حلالٌ إلى يوم القيامة، وحرام محمَّد (ص) حرام إلى يوم القيامة، وتأتي من اعتبارهم أنَّ القرارات النَّبويَّة التنظيمية لها قوة التنزيل الحكيم الشامل المطلق الباقي، ناسين أنَّ التحليل والتحريم محصور بالله وحده، وأنَّ التقييد الأبدي للحلال المطلق يدخل حتماً في باب تحريم الحلال، وهذه صلاحية لم يمنحها تعالى لأحد بما فيهم الرُّسُل".[44]
التصنيف البدعي للحديث النبوي
لا نزعم أنَّ كُلّ الحداثيين اتفقوا على تصنيف واحد للحديث، بل فيهم الشاك في أصل السُّـنَّة، وفيهم الذي يقبل المتواتر دون الآحاد، وفيهم من يقبل ما وافق العقل، وفيهم من أخذ المبادرة وفق هذا المبدأ أو ذاك في استحداث تصنيف جديد للسُّـنَّة النَّبويَّة. ونتوقف عند شحرور مرة أخرى، إذ إنه من أكثر الحداثيين تفصيلاً للسُّـنَّة بعد تفكيكها وعرضها على "العقل والواقع". وتصنيفه مرفوق بمدى قبول أو رفض الأصناف التي ابتدعها.
أ. أحاديث الشعائر والطاعة واجبة متصلة للرسول حياً أو ميتاً.
ب. أحاديث الإخبار بالغيب: وهي مرفوضة كلها انطلاقاً من أنَّ النَّبيّ -صلى الله عايه وسلم -لا يعلم الغيب، على حد قوله.
ج. أحاديث الأحكام: فهي تحمل الطابع التاريخي، وبالتالي فهي للاستئناس فقط سواء أكانت متواترة أم غير ذلك، وبناء عليه فهو يؤكد أنَّ القياس فيها غير ملزم.
د. الأحاديث القدسية: فهي عنده مرفوضة لعدم الحاجة إليها، إذ إنَّ التنزيل قادر على تفصيل الأحكام.
هـ. أحاديث حياة النَّبيّ الخاصة ليست محل أسوة لأهل الأرض في كُلّ زمان ومكان.[45]
و. "والأحاديث التي تتحدث عن الفتن، والمهدي والدجال ثُمَّ الموت وعذاب القبر فالحشر والنشر والجنة والنار تجاوزت المئات إلى الألوف، ونحن نطويها دون حساسية أو أسى".[46]
وما يميّز شحرور هو جرأته على طي أحاديث الصحاح واتهام مدونيها بتحريف التنزيل الحكيم، فعند تطرقه لحديث أركان الإسلام، والذي أجمعت الأمة قاطبة على صحته إلاَّ شحرور وجماعته ذكر ما يلي: "كما نجد أنفسنا مع أركان الإسلام المزعومة التي تضم الشعائر فقط، أمام تحريف خطير لما ورد في التنزيل الحكيم"[47]. بل ذهب إلى أكثر من ذلك، وذلك عندما زعم أنَّ هذا الحديث من ابتداع كتب الأصول والأدبيات الإسلامية، حيث قال: "لقد أقامت كتب الأصول والأدبيات الإسلامية أركاناً للإسلام من عندها، حصرتها في خمس هي التَّوحيد والتَّصديق برسالة محمَّد ـصلى الله عليه وسلم ـ والشعائر، مستبعدة العمل الصالح والإحسان والأخلاق من هذه الأركان. فالتقت دون أن تقصد بالعلمانيين والماركسيين من أصحاب مشاريع الحداثة والتجديد، كما أسلفنا. ووقعت دون أن تقصد أيضاً فيما وقع فيه اليهود والنَّصّارى"[48].
وقد يحتاج المرء أن يسأل نفسه أحياناً ما إذا كانت جعجعة الحداثة قد أنتجت فعلاً هذه الطحينة الهزيلة، خصوصاً وأنَّ الكاتب لا3 يعد نفسه من الحداثيين ولا من التجديديين ولا من السلفيين، وقد جادت قريحة شحرور العلمية بأركان الإسلام التي يوضحها كما يلي:
الإيمان تسليماً بوجود الله.
الإيمان تسليماً باليوم الآخر.
العمل الصالح والإحسان.
يحاول شحرور فيما يبدو المزج بين الإيمان كعقيدة والإسلام كعمل، فأصبح للإيمان ركنان وللإسلام ركن واحد. ولا يخفى أن الاختزال الذي لجأ إليه شحرور يهدف إلى الاهتمام "بالجوهر" والتقليص من الشعائر. وقد خفي على شحرور أن أركان الإسلام الخمسة قد تضمنت الأركان التي اخترعها من عنده. فالشهادة قد تضمنت النواحي الإيمانية التي حرص عليها شحرور. أما الصلاة والزكاة والصوم والحج فهي الجانب العملي للشهادة وهي أعمال كما لا يخفى في قمة الصلاح والإحسان. بل إن أبعادها الروحية والنفسية والاجتماعية والحضارية أكثر من أن تحصى. فالصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر. والزكاة قمة التكافل الاجتماعي، والصوم امتناع عن المعاصي وتمثل بالملائكة، والحج سياحة روحية وبذل نفسي في سبيل مرضاة الخالق، فضلاً عن تحقق قدر من وحدة المسلمين التي ينشدها كل مسلم.
ثم إن الحديث مما روته كتب الصحاح وتلقته الأمة بالقبول والامتثال ووقع عليه الإجماع المفيد للقطع. وخفي على شحرور وعلى كل من ينكر هذا الحديث أن فائدة الإجماع هو تحويل الظني إلى قطعي[49]. وقد أكد ابن رشد رائد البرهان في نظر الحداثيين أن "ما نُقل نقل آحاد، فإن الإجماع ينقله من رتبة الظن إلى رتبة القطع"[50]، هذا على اعتبار أن حديث أركان الإسلام حديث آحاد.
وخفي على هذا المفكر وأمثاله أنه يعيش في عصر ما بعد الحداثة حيث وضعت القيم في محك النظر وخلص الأمر عند أقطاب فكر ما بعد الحداثة أمثال ميشال فوكو وغيره أن القيم نسبية ولا مجال لوصف هذا العمل بالصلاح أو الفساد إلا ما تحدده الظروف المحيطة بذلك العمل. بمعنى أن القيم غير ثابتة ويمكنها أن تسبح في فضاء النسبية إلى ما شاء الله. من هنا غاب الميزان الأخلاقي في العصر الحديث، حيث أصبح الظلم عدلاً، والخير شراً، والمقاومة إرهاباً، والدعوة تحريضاً، والالتزام بالدين" أرثوذكسية" تعادي العقل وتعطل الحداثة في زعمهم.
فما هو العمل الصالح والإحسان اللذان وضعهما شحرور ركنين من أركان الإسلام؟ لماذا هذا التعميم المخل وعدم الإفصاح عن تفاصيل هذه الأركان؟ لا يمكن بأي دين أو فكرة أو مشروع أن ينجح في أرض الواقع إلا إذا تحددت معالمه وترسخت أركانه وبانت للناس ثوابته ومتغيراته حتى تتحدد مجالات الطاعة ومجالات الاجتهاد.
وإذا كان لكل وطن ثوابته وللخطاب القومي العربي ثوابته وللحداثة ثوابتها فلماذا لا يكون للدين ثوابت واضحة تحفظ له حدوده وتضمن له صيرورته. ثم إن هذه الشريعة "أميّة" - على حد تعبير الإمام الشاطبي - نزلت لتراعي "الفهم الجمهوري" لا النخبة، وتقتضي هذه الأمية أن تحدد الشريعة لجمهور المكلفين أركاناً واضحة قطعية الثبوت والدلالة.
نظرة في آليات التفكيك النصي
السؤال الذي يطرح نفسه في هذا المقام هو ما إذا كانت آليات تفكيك الخطاب الديني والبشري تتصف بالعلمية، وهل هي مجمع عليها ؟ هل نجحت في نقد الخطاب الديني وقراءته قراءة إيجابية؟ وهل الخطاب الديني بالضرورة معاد للحداثة بحيث يحتاج إلى تفكيك وتركيب؟ وهل بالضرورة وضع التراث والحداثة في إطار عدائي لا يتصور الجمع بينهما؟ إن الذي يراجع تطور علم الألسنيات في الغرب ويتأمل في الهرمنيوطيقا التي استخدمت في نقد النصوص الدينية يخلص إلى القول إن النظريات "السيمنتية" و"البراغماتية" لم تصل بعد إلى مستوى تحليل أي خطاب ديني فضلاً عن نقده أو تفكيكه. فالبعد البراغماتي في اللغة يحرص على بيان علاقة اللفظ باستعماله في زمان ومكان محدد[51]، أي سلطة الزمان والمكان على النص الديني.
بينما في المفهوم الإسلامي، الخطاب الديني المتمثل في القرآن والسنة غير خاضع لهذه السلطة إلا ما تقتضيه متطلبات تنزيل النص على الواقع. ذلك لأن الزمان والمكان مخلوقان بينما خطاب الوحي صفة من أوصاف المخاطِب وهو الله سبحانه وتعالى، وهو متعال عن سلطة الزمان والمكان. ومن ناحية أخرى انتقدت نظرية ويقنشتاين التي حصرت البعد البراغماتي للنص في حدود استعماله فقط، فنشأت ما يسمى بالسيميائية النصية التي حاولت الجمع بين البعد البراغماتي والسيمنتي (الدلالي) واللغوي للنص، لكنها لم تفلح في التخلص من البعد الإبستيمي، وهي التصورات والأفكار المسبقة التي يحملها المخاطِب والمخاطَب. وعليه فمن الذي يضمن أن الناقد للنص الديني حيادي وموضوعي ومن الذي يضمن أنه غير متأثر بدوافعه التفكيكية والحداثية المسبقة؟ وهل يشترط فصل النص عن مؤلفه حتى يُفهم ويُفعّل تفعيلاً إيجابياً؟ هذا ما لا نجد له جواباً شافياً في أطروحات الحداثيين.
الخاتمة
بات من الواضح أن الحداثة مشروع يهدف إلى مساءلة الماضي واعتباره إشكالية رئيسية في مسيرة الحضارة الإنسانية. وبات جلياً أن للحداثيين مشكلة مع الدليل النقلي المتمثل في القرآن والسنة حيال قراءتهم لهما قراءة تفكيكية وتبين للعيان ما تمخض عنه جبل الحداثة من التشكيك في مصدرية القرآن وحجية السنة النبوية المطهرة ورفض أحاديث الآحاد عند بعضهم وإحاطتها بهالة من شكوك من طرف البعض الآخر. وتبينت هشاشة المنهج التفكيكي لأنه يطبق مبادئه في حقل مختلف تمام الاختلاف عن الحقل الذي نشأ فيه. واتضح أن هناك عوامل تمنع من تطبيق الهرمينوطيقا على النص النبوي.
وأهم هذه العوامل هي نسبية المنهج الهرمينوطيقي وإطلاقية النص النبوي، ولا يمكن للنسبي أن يكون حاكماً على المطلق كما يقر الحداثيون أنفسهم. ومن العوامل الأخرى هو تحرر النص النبوي بوصفه وحياً عن قيود الزمان والمكان، بينما يقتضي الفكيك التأكيد على تاريخية النص النبوي ووجوب دراسته وإطاره الزماني والمكاني. ويمكن أن نستنتج من هذا كله أن الحداثة فشلت في إحياء التراث كما عجزت عن قراءة النص الديني على العموم والنص النبوي على الخصوص قراءة إيجابية وبالتالي فشلت الحداثة في تحقيق التصالح مع التراث وتوضيف مخزونه الحضاري في إحداث التطور النشود.
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى